لم تعد فرنسا تلك القوة الخارقة لا في العالم ولا في أوروبا ولا حتى داخل فرنسا. فملامح الشتات السياسي الفتّاك صارت واضحة وضوح الشمس، وأعراض الوهن والشيخوخة السياسية لا تحتاج لشخص دقيق الملاحظة أو لمحلل جهبذ خارق للعادة حتى يدركها. فقد عاشت فرنسا هذا الأسبوع أسوأ فترة لها منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، التي لم تكن سوى تسميات تغيرت، لكن واقع فرنسا الاستعماري القذر، المُغطى بديموقراطية زائفة، انهار في أول منعرج.
سقوط حكومة ميشال بارنييه في فترة قصيرة جدًا يُعد مؤشرًا خطيرًا على وضعية فرنسا من الداخل، خاصة أن حكومة بارنييه كانت تراهن على إصلاحات اقتصادية عميقة لتخفيف أزمة التضخم المتصاعدة. ومع ذلك، اصطدمت الإصلاحات باحتجاجات شعبية عارمة، لاسيما بين فئات العمال والطبقة المتوسطة، التي تعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية بشكل حاد.
على الصعيد السياسي، فشل الرئيس إيمانويل ماكرون في الحفاظ على التماسك داخل حزبه “النهضة”، الذي تعرض لانشقاقات كبيرة خلال العام الماضي. فقد خسر أكثر من 70 نائبًا من أعضاء حزبه في البرلمان، مما أدى إلى أزمة أغلبية برلمانية غير مسبوقة. يُضاف إلى ذلك أن تصاعد نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة واليسارية الراديكالية زاد من تعقيد المشهد السياسي، ما جعل تشكيل حكومة مستقرة أمرًا شبه مستحيل.
من جهة أخرى، تُواجه فرنسا ضغوطًا خارجية، خاصة مع تراجع تأثيرها في مناطق النفوذ التقليدية مثل إفريقيا. خسارة فرنسا نفوذها في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، لصالح قوى دولية أخرى مثل روسيا والصين، شكّل ضربة موجعة للسياسة الخارجية الفرنسية، التي طالما استندت إلى استغلال الموارد الإفريقية للحفاظ على قوتها الاقتصادية.
وفي الداخل، شهدت فرنسا خلال الأشهر الماضية موجة إضرابات واحتجاجات بسبب الإصلاحات التي طرحها ماكرون في نظام التقاعد، التي قوبلت برفض شعبي واسع النطاق. وقد زاد هذا من الفجوة بين الحكومة والشعب، حيث أصبحت المؤسسات الرسمية فاقدة للمصداقية في نظر شريحة واسعة من المواطنين.
الأزمة المؤسساتية التي تتحدث عنها الدوائر الفرنسية المناهضة لحكم ماكرون تتجلى بوضوح في عجز الحكومة عن تمرير ميزانية 2025، التي أصبحت في مهب الريح. كما أن التحالفات المشبوهة التي يعتمد عليها ماكرون للاستمرار في الحكم تؤكد فقدانه للبوصلة السياسية، وسط انتقادات بأنه يُعالج مشاكل فرنسا الداخلية بتصدير الأزمات إلى الخارج، وخاصة تكالبها وتآمرها على الجزائر وملفات الهجرة والأمن.
فرنسا، التي كانت تُعتبر “الدولة العجوز” بفضل ثقلها السياسي والاقتصادي، تواجه الآن موسم “اليأس السياسي” والاقتصادي. انهيار القرار الموحد، الفشل في إدارة الأزمات، والعجز عن تقديم حلول ملموسة للمواطنين، كلها مؤشرات على أن فرنسا تقف على مفترق طرق خطير قد يُغير ملامحها في المستقبل القريب.